تمر في هذه الايام ذكرى وفاة الشاعر العراقي المعروف محمد مهدي الجواهري (ولد في عام 1899 وتوفي في 27 تموز 1997). ادناه ، كتبت بعضها سابقاً (معظمها يعود الى سنة 2004)، عن علاقتي 'الشخصية' بالشاعر الكبير.
(1)
تعود”معرفتي” باسم الجواهري وبشعره، عندما بدأت أعي، وانا طالب في المرحلة الثانوية بمدى الظلم والاجحاف الواقع علينا، سيما نحن الفقراء، ساكني هذا البلد الذي اسمه – العراق؛ ومما زاد في التركيز على هذا الوعي وتأجيج شعور الاحساس به، انتسابي الى عائلة ينتمي جل ّ افرادها الى اليسار، وينادي بعضهم الى ضرورة التغيير الثوري كحل مناسب وحتمي لتبديل وضعنا المزري. وازعم بان منطقة الجنوب العراقي التى انتمي اليها جغرافياً، كانت آنذاك، تمور بمثل تلك الاحاسيس والافكار، وهو ما اطلعت عليه ميدانياً اثناء زياراتي واقامتي ولقاءاتي مع الكثيرين من سكنة تلك المناطق، والعيش بين ظهرانيهم.
كان اسم”الجواهري” وقتذاك، عنوانا للامال المتطلعة نحو التغيير، كان الشاعر الذي جسد في شعره طموحات الكثيرين، الطموحات المتطلعة والساعية وراء آمال لآفاق جديدة، افاق ينعم الشعب فيها بالحرية المفقودة ويتلمس مزايا العيش الكريم؛ وربما كان هذا الجانب المعرفي من شعر الجواهري،هو الجانب الاكثر قرباً وفهما عند الكثيرين، الامر الذي مكنّ خطاب منجزه الشعري ليكون خطابا هاما ومهيمنا على مشهد الاحداث الوطنية والثقافية في عموم البلاد.
... في عصر يوم من ايام الخمسينات، وكنت في احدى زياراتي النادرة الى بغداد، طرق سمعي، وانا في شارع الرشيد الفخم، نداءات بائعي صحيفة ”اليقظة” المسائية، يعلنون عن قصيدة جديدة للجواهري القاها في دمشق مؤخراً، مطلعها:
خلفتُ غاشيةَ الخنوع ورائي
واتيتُ اقبس جمرة الشهداءِ
ودرجتُ في درب على عَنَت السُّرى
القٍ بنور خطاهـُم وضاء
كان المارة واصحاب الدكاكين على جانبي الطريق يستعجلون الباعة في الحصول على نسختهم من الجريدة التى احتلت القصيدة صفحتها الاولى. كان مشهداً رائعاً بامتياز؛ مشهدا، ان اكون انا، بنفسي شاهدا، على مدى الحب والتقدير والتبجيل الذي يكنه الاخرون للشاعر العظيم : شاعري الاثير؛ عندما رأيت نسخ الصحيفة تتلقفها الايدي ولتبحث العيون بسرعة وتستقر عند كلمات ابيات القصيدة العصماء!
(2)
... عندما نلت مقعدا من مقاعد دائرة البعثات للدراسة بالخارج على حساب الدولة في نهاية الخمسينات، وتحديداً في صيف عام 1959، منحتنا 'الدائرة كعادتها دفعة مالية مخصصة الى الطلبة المبعوثين، من اجل شراء ملابس اضافية تتواءم مع الاجواء الباردة الاوروبية، التى ستضحى دولها مقرا ً لدراستنا المستقبلية. لا اذكر مقدار المبلغ في التحديد، لكنه كان مبلغاً كبيرا؛ بالنسبة لي كان مبلغاً خيالياً، لا يصدق: ثمانون ديناراً او نحوها! فلاول مرة ارى في حياتي ' نوط ابو الخمسة 'بهذة الكثرة والعدد، كما كانت تدعى الاوراق النقدية بقيمة خمسة دنانير! بحيث اقترح علىّ صديقي ان يسير ورائي ليراقب جيبي الخلفي الذي امتلأ فجأة بهذه 'الاوراق' النقدية، ويحرسه من ايدي النشالين والحرامية! وسهل اقتناء هذا المبلغ الكبير تحقيق امور كثيرة منها ... اللقاء بالجواهري ! .
اذ راودتني'فكرة' ان اشتري ديوانا لشعر الجواهري، واذهب اليه مباشرة ليوقع عليه، ومن ثم احتفظ بالكتاب الموقع كتذكار، طيلة مدة بعثتي في البلد الغريب الذي انوي السفر اليه. كان البحث عن الديوان في مكتبات بغداد الكثيرة شأنأ هيناً، كما ان تحقيق شرائه امر ميسور، سيما وانا، الان، املك هذا المقدار الكبير من المال؛ لكن الصعوبة تكمن في الذهاب الى الشاعر، والطلب منه التوقيع على الكتاب . فهذه الممارسة؛ ممارسة توقيع الكتب، التى تعرفت اليها عبر قراءاتي فقط؛ لم تكن ممارسة معروفة في الوسط الثقافي المحلى ربما حتى وقت قريب، فما بالك في فترة نهاية الخمسينات؟ واذا سلمنا 'بعادية' و مألوفية' تلك الممارسة، فمن يضمن بان الشاعر يعرفها او مطلع عليها ؟ والامر المحيرّ الاخر، هو كيف تسنى لي، انا الريفي الخجول، والصغير عمراً نسبيا (18 سنة)، ان تراودني مثل تلك الافكار التى اعتبرها الان طليعية .. وغريبة نوعا ما؟! .
وبلمح البصر، اقتنيت ”ديوان الجواهري” من ”المكتبة العصرية” الواقعة في اواخر شارع المتنبي، بالقرب من مدخل ”سوق السراي” المعروف؛ وكانت وقتئذٍ من اقدم واشهر مكتبات بغداد واكبرها. وبلمح البصر ايضا، صعدت ومعي ”الديوان” متسلقا سلم جريدة ”الرأي العام” في شارع المتنبي، التى كان يصدرها الشاعر آنذاك. لم يكن ثمة حراس او موظفو استعلامات؛ وفجأة وجدت نفسي امام الجواهري، في غرفته، لم يكن جالساً، كان يسير في غرفته جيئة وذهاب، وبيده سيجارته، وجدته رجلاً ضعيف البنية، بيد انه طويل، طويل وضعيف؛ سلمت عليه وباغته بطلبي: التوقيع على ديوانه.
- هل عندك قلم ؟
- سألني ولم تبد عليه، كما توقعت، اية دهشة او استغراب من طلبي..
- لا، لا املك قلما.
كان جوابي سريعاً... ماكرا وخبيثاً؛ ذلك لاني شعرت بحسي الريفي باني اذا اعطيته قلماً مباشرة - وكنت احمله - سوف تنتهي المقابلة بسرعة، وهو امر لم يكن في صالحي؛ في صالحي كان البقاء معه اطول وقت ممكن..؛ ورأيته يفتش في جيوبه العديدة، ثم وجده : قلم : باندان؛ بحبر اسود،
- ماهو اسمك ؟
- خالد السلطاني
وكتب في الزاوية العليا من اول صفحة داخلية من الديوان:
“الى الاخ خالد السلطان
مع التحية”
ثم وقع باسمه مع ذكر التاريخ كما اتذكر؛ كتب اسمي من دون اضافة حرف ”ياء” النسبة الاخير؛ ربما سمعها - السلطان - مني هكذا..، ولم اعترض طبعاً.
عندما كان يكتب، ادهشتني رؤية اصابعه؛ كانت اصابع طويلة ودقيقة؛ اطول مما ينبغي؛ لم ارَ سابقاً اصابع بهذا الطول، وبتلك النحافة؛ لقد اخذني المشهد، وجعلني اركزّ مبحلقاً عليها، على تلك الاصابع النحيلة المستدقة المعروقة، الماسكة بالقلم، دون اية محاولة للتعرف على ملامح وجهه او بذل اي مسعى لاستذكار تقاطيع ذلك الوجه؛ لا ادري لماذا تذكرت، فجأة، قصة ”ستيفان زفايج”: - 24 ساعة من حياة امرأة -؛ ففي تلك القصة يتناول المؤلف عبر ابطال القصة، الحديث عن الاصابع : اصابع الاشخاص : اشكالها وهيئاتها، وماذا بمقدورها ان تعكس من مزايا شخصية، وسمات ذاتية.. لقد كانت اصابعه تشبه الى حد كبير، كما ساعرف لاحقاً، اصابع الموسيقي، او عازف البـيانو تحديداً... وليست ثمة غرابة في ذلك، فقد عرفت، لاحقاً ايضا ً، بان الشاعر كان يصطفي ايقاع قصيدته وصوتها الموسيقي، قبل ان يملأها في جُمل فيما بعد، وعندما كان يشتغل على قصيدته وينظمها، كان اولا ”يحدي” شفاهياً بموسيقاها قبل ان تتحول تحريرياً الى ابيات شعر من كلمات! ولعل هذا التآلف - وربما التثاقف، ايضاً - الذي نزع الجواهري لتأسيسه في منجزه الشعري، جعل منه منجزاً يتسم معماره على حضور طاغِ ”لميلوديا” موسيقية تطمح الى تأثيث حساسية جديدة بمرجعية نادرة، مرجعية تحرص لان تتصادى مع اجناس معرفية متنوعة...
(3)
.. في موسكو التى امست مكاناً لدراستي المعمارية، تعرفت فيها على الكثيرين: المقيمين فيها، او زوارها؛ وما اكثر زوار موسكو حينذاك! تعرفت على غائب طعمة فرمان، وحسب الشيخ جعفر واحمد ماضي، وجيلي عبد الرحمن، ومجيد بكتاش، وكذلك عبد الوهاب البياتي، ملحقنا الثقافي، وعلى السفير عبد الوهاب محمود – احد الشخصيات الوطنية العراقية المرموقة، الدبلوماسي والمثقف المتنور، الذي لم تعرف سفارتنا بعده رجلا مثل مكانته وحضوره، وبمثل حسه الوطني ورغبته الصادقة في تمتين اواصر الصداقة الحقيقية بين الشعبين العراقي والسوفياتي انذاك. ..وفي موسكو التقيت به.. الجواهري، مرة اخرى. وكان ذلك اثناء انعقاد ”مؤتمر موسكو لنزع السلاح” صيف عام 1962؛ والذي حضره مفكرون ومثقفون وعلماء ورجال سياسة مشهورون من غالبية انحاء العالم، بضمنهم وفد العراق الذي كان في مقدمتهم الشاعر الجواهري الذي القى في المؤتمر قصيدة بعنوان ”اطفالي واطفال العالم”؛ و ترجمت القصيدة في حينها الى عدة لغات ونشرت في عدة صحف عالمية؛ مطلعها:
لي طفلتـانِ اقنصُ الخيالا
عبريهمـا والعِـطر والظـِلالا
اسوءُ حالا كي يُسـّرا حالا
كنت قد عملت، سابقاً،في سنة 1961، تخطيطاً شخصياً للشاعر عبد الوهاب البياتي، الذي سرعان ما نشره في ديوانه ”القمر الاخضر” الصادر بالروسية. واذ عرفت بان الجواهري سيحضر هذا المؤتمر، عملت له ايضا تخطيطا شخصيا منقولا عن صورة فوتغرافية، رسمتها بتأن وبدقة، ومزجتها مع ”مشعل” الحرية، ولهيبه المتوهج الذي يفترض ان ينير ”دروب” دعاة الحرية ومناصريها. ومع ان الرسم التخطيطي كان مثقلا بذهنية ومزاج تلك الايام وتصوراتها المتخيلة، فقد كنت صادقاً واميناً ومخلصاً في التعبير عن احاسيسي تجاه شاعري المفضل.
رغبت ان اسلمه التخطيط في مقهى موسكو الشهير، اذ كان المكان محط مجلس عدد كبير من المثقفين المعروفين المشاركين في المؤتمر؛ فقد كان يجلس هناك بالاضافة الى ”مجموعتنا”: الجواهري وعزيز شريف وحسين مردان من العراق وميخائيل نعيمة من لبنان وكثير من المثقفين المصريين، فضلا عن”جون بول سارتر”ورفيقة دربه”سيمون دي بوفار”ومثقفين مشهورين اخرين من بلدان متعددة مشاركين في المؤتمر اياه...
...كان 'مجيد بكتاش' كالعادة، يكرر دائما بصوته المميزّ، مقولة منسوبة الى الجواهري ارسلها الشاعر الى احد محرري صحف بغداد الصادرة في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، اثناء اشتداد المعارك الفكرية بين مناصري الجمهورية وخصومها. وفي حينها كانت تصدر جريدة مبتذلة ، مليئة بمقالات اتسم خطابها ببذائة لغوية وتعابير وقحة وشتائم كلامية رخيصة موجهه الى جميع انصار الثورة ومن ضمنهم بالطبع الجواهري وجريدته 'الرأي العام'. وفي حينها ايضاً، اصدر احد اقدم صحافي العراق جريدة 'صوت الاحرار' ذات اتجاه معاكس لتلك الصحيفة 'الصفراء '، ساعياً الى دحض اكاذيبها 'وتفكيك' اتهاماتها ومقولاتها الفاحشة بمقالات مضادة ومناصرة الى الجواهري وصحبه الاخيار، ويقال ان الشاعر حرر رسالة مفتوحة تضامنية مع رئيس تحرير هذه الجريدة نشرتها 'الرأي العام'، وباتت مجال اهتمام الوسط الثقافي والسياسي المحلي؛ وقد عنونها كالاتي :
'عزيزي طه لطفي البدري، اقبل يديك الراعشتين !' .
كان 'مجيد' يكرر هذه العبارة يومياً، بمناسبة وبدونها، حتى امست 'لازمة' له، ورغبت عند تقديم المخطط الى الجواهري ان اقبل يديه، تماما كما كان يرغب هو في رسالته المشهورة، التى كررها 'مجيد' على اسماعنا مرارا وتكرارا ً؛ كايماءة مني لشعور الاحترام والتقدير والتبجيل والمحبة الذي اكنه له. واثناء جلوسه في مقهى موسكو العتيد، محاطاً بكثير من اصدقائي ومعارفي العراقيين، اظهرت المخطط الذي وضعته في اطار، وقدمته له؛ كانت مفاجأة بالنسبة اليه، وظهر عليه ارتباك، لكنه سرعان ما ابدى اعجابه به ورضاءه عليه، عند ذاك صاح اصدقائي، وكانوا يعرفون مسبقا عزمي ونيتي في تقبيل يديه:
- قبله .. قبله !
بيد ان الجواهري تراءى له ان مناشدة اصدقائي موجّه له شخصياً، وليس لي ، ولهذا سارع الى تقبيلي، وانا في حيرة من امري ومندهش لسير الامور في اتجاه مخالف تماما لما كنت 'خططت' له، وبات قصدي في تقبيل 'يديه الراعشتين' امرا صعب التحقيق، بعد 'سيل القبلات التى غمرني بها الشاعر الكبير!
(4)
لم يكن التخطيط، الذي رسمته للشاعر، تخطيطاً محترفاً ذا قيمة فنية عالية، واعترف بعد تلك السنين من ميقات رسم التخطيط، بانه احتوى على اخطاء وعيوب فنية وتكوينية عديدة. انه لا يجاري قطعاً، لا من ناحية قوة الخطوط ورهافتها، ولا من ناحية التكوين الطليعي ذلك التخطيط الجميل والرائع الذي عمله ”جواد سليم” له، لكنه كما اعتقد، كان التخطيط الشخصي الثاني للشاعر في ذلك الحين، بعد تخطيط جواد. واود هنا ان اثير موضوعة اهمية مخطط ”جواد سليم” اياه. فهذا المخطط الذي عمله ”جواد” للجواهري في باريس أواخر الاربعينات لم يحظ َبالعناية والاهتمام من جانب جميع كتاب الدراسات النقدية التى تعاطت مع منجز جواد سليم الفني؛ علماً ان هذا المخطط السريع، المشغول بالحبر الصيني، والمعمول مباشرة من ”الطبيعة”؛ يرتقي، في رأيي، باسلوبه المحترف المتقن وفنيته العالية الى مصاف اهمية التخطيطات الكرافيكية التى عملها ”هنري ماتيس”، تلك التى ساهمت في بناء شهرته وتكريس حضوره في المشهد الفني العالمي. ولولا الحاح الجواهري في تكرار نشر التخطيط كلما اعاد طباعة ديوانه، لظل هذا التخطيط الرائع اسير النسيان والاغفال، تماما كما هو منسي في دراسات نقادنا الفنانين، الذين ”اجمعوا” في توافق مريب على تغاضي هذا التخطيط، وعدم الاشارة اليه مطلقاً، مع انه عمل اصيل في مسار الانجاز الفني لجواد سليم،كما انه حدث مهم في تاريخ الفن العراقي الحديث. ويماثل مصير اغفال ذكر تخطيط ”جواد سليم” مصير حادثة اهمال الدراسات النقدية وقصورها في التعاطي مع اهمية نص مقدمة الديوان الشهيرة ”على قارعة الطريق”، تلك المقدمة التى اتسم اسلوبها الكتابي بوجود نَفَس طليعي، مفعم بحس حداثي مبكر، سواء كان ذلك لجهة تكريس معمار تجديدي في طريقة بناء تعاقب نصوصها؛ ام في حضور سياق مدهش لمفرداتها المختارة بعناية تامة؛ وقد بلغ اعجابي الشخصي ”بالمقدمة” ان حفظت عن ظهر قلب نصوصها النثرية، تماما، كما يحفظ الاخرون ابيات القصيدة الشعرية!
(5)
اقول، رغم ان التخطيط المقدم للشاعر، في مقهى موسكو، لم يكن بمعايير فنية كاملة، فاني وددت به ان اعبر عن احترامي وتقديري للشاعر، شاعري المفضل، الذي سبق وان قابلته لاول مرة، في احدى بنايات شارع المتنبي ببغداد. بالطبع، لم اذكر له الحكاية : حكاية توقيع الكتاب، وحتى لو ذكرتها، فانه قطعا لا يتذكرها؛ لكني عرفت، لاحقاً، بانه كان شديد الاهتمام والرعاية لهذا التخطيط، وظل مصاحبا له في كثير من المدن التى مرّ بها. وعندما استقر في بغداد في السبعينات علق التخطيط في غرفة الضيوف اعتزازا به. وذات يوم، من منتصف السبعينات، وكنت اعمل استاذا في جامعة بغداد بكلية الهندسة، وكان يعمل معي في الكلية نفسها ابن الشاعر وصديقي د. كفاح، اخبرني الاخير بان الجواهري يود ان يراني مرة اخرى ليعبر لي عن تقديره الشخصي واعتزازه بالتخطيط.
وزرته في داره بحي الحارثية بصحبة الصديق كفاح، الذي قدمني اليه على اني الشخص الذي رسم التخطيط، ذلك التخطيط المعلق في جدار غرفة الضيوف، التى كانت وقتها غاصة بزواره، اذكر منهم مهدي المخزومي النحوي البغدادي المعروف وعلي جواد الطاهر، واستقبلني الشاعر بحرارة، وشكرني على هديتي، التى ابدى اعجابه بها وامتنانه لي. وقد فهمت لاحقاً، ان الجواهري ابدى رغبة شخصية وحرصا شديداً بوجوب نشر ذلك التخطيط في احد اجزاء دواوينه الصادرة ببغداد في السبعينات، وتم تحقيق ذلك!
... لم تكن ”اثاث” الدار التي يسكنها الجواهري اعتمادا على نوعية تأثيث غرفة الضيوف تليق بمقام الشاعر واهميته الادبية، بل ان عمارة ”الدارة” نفسها لم تحتوي على قيمة فنية تشي باهمية”ساكنها'؛ كما ان موقعها ظل بعيدا عن نهر دجلة، الذي طالما تاق الشاعر ان يسكن بجواره وعلى ضفافه؛ وقارنت بين طبيعة ”القصور” التى بدات تشيد، وقتذاك، بشكل سريع لسكن ”حكام” العراق وازلامه الموغلين بدم الشعب وسارقي ثرواته، وبين المسكن المتواضع للشاعر الكبير، وصعقني مجرد التفكير بتلك المقارنة ونتائجها المجحفة والظالمة والجائرة وغير العادلة بحق احد رجالات العراق العظام! بيد ان الشاعر ومن خلال حديثه وانفعالاته لم احس ّ بانه يقترب من ”محيط” منطقة الافكار التى راودتني، وظل منسجما مع نفسه ومع ضيوفه غير مكترث بالحالة التى هو فيها، متمسكاً باسلوب حياته : اسلوب المثقف الكوني الذي لا يملك شيئا، ولا يملكه شئ، بتعبير المتصوفة!
وكانت تلك الزيارة اخر عهد لي بالجواهري، كما كانت اخر مرة، ارى فيها التخطيط الاصلي.
تمر في هذه الايام ذكرى وفاة الشاعر العراقي المعروف محمد مهدي الجواهري (ولد في عام 1899 وتوفي في 27 تموز 1997). ادناه ، كتبت بعضها سابقاً (معظمها يعود الى سنة 2004)، عن علاقتي 'الشخصية' بالشاعر الكبير.
(1)
تعود”معرفتي” باسم الجواهري وبشعره، عندما بدأت أعي، وانا طالب في المرحلة الثانوية بمدى الظلم والاجحاف الواقع علينا، سيما نحن الفقراء، ساكني هذا البلد الذي اسمه – العراق؛ ومما زاد في التركيز على هذا الوعي وتأجيج شعور الاحساس به، انتسابي الى عائلة ينتمي جل ّ افرادها الى اليسار، وينادي بعضهم الى ضرورة التغيير الثوري كحل مناسب وحتمي لتبديل وضعنا المزري. وازعم بان منطقة الجنوب العراقي التى انتمي اليها جغرافياً، كانت آنذاك، تمور بمثل تلك الاحاسيس والافكار، وهو ما اطلعت عليه ميدانياً اثناء زياراتي واقامتي ولقاءاتي مع الكثيرين من سكنة تلك المناطق، والعيش بين ظهرانيهم.
كان اسم”الجواهري” وقتذاك، عنوانا للامال المتطلعة نحو التغيير، كان الشاعر الذي جسد في شعره طموحات الكثيرين، الطموحات المتطلعة والساعية وراء آمال لآفاق جديدة، افاق ينعم الشعب فيها بالحرية المفقودة ويتلمس مزايا العيش الكريم؛ وربما كان هذا الجانب المعرفي من شعر الجواهري،هو الجانب الاكثر قرباً وفهما عند الكثيرين، الامر الذي مكنّ خطاب منجزه الشعري ليكون خطابا هاما ومهيمنا على مشهد الاحداث الوطنية والثقافية في عموم البلاد.
... في عصر يوم من ايام الخمسينات، وكنت في احدى زياراتي النادرة الى بغداد، طرق سمعي، وانا في شارع الرشيد الفخم، نداءات بائعي صحيفة ”اليقظة” المسائية، يعلنون عن قصيدة جديدة للجواهري القاها في دمشق مؤخراً، مطلعها:
خلفتُ غاشيةَ الخنوع ورائي
واتيتُ اقبس جمرة الشهداءِ
ودرجتُ في درب على عَنَت السُّرى
القٍ بنور خطاهـُم وضاء
كان المارة واصحاب الدكاكين على جانبي الطريق يستعجلون الباعة في الحصول على نسختهم من الجريدة التى احتلت القصيدة صفحتها الاولى. كان مشهداً رائعاً بامتياز؛ مشهدا، ان اكون انا، بنفسي شاهدا، على مدى الحب والتقدير والتبجيل الذي يكنه الاخرون للشاعر العظيم : شاعري الاثير؛ عندما رأيت نسخ الصحيفة تتلقفها الايدي ولتبحث العيون بسرعة وتستقر عند كلمات ابيات القصيدة العصماء!
(2)
... عندما نلت مقعدا من مقاعد دائرة البعثات للدراسة بالخارج على حساب الدولة في نهاية الخمسينات، وتحديداً في صيف عام 1959، منحتنا 'الدائرة كعادتها دفعة مالية مخصصة الى الطلبة المبعوثين، من اجل شراء ملابس اضافية تتواءم مع الاجواء الباردة الاوروبية، التى ستضحى دولها مقرا ً لدراستنا المستقبلية. لا اذكر مقدار المبلغ في التحديد، لكنه كان مبلغاً كبيرا؛ بالنسبة لي كان مبلغاً خيالياً، لا يصدق: ثمانون ديناراً او نحوها! فلاول مرة ارى في حياتي ' نوط ابو الخمسة 'بهذة الكثرة والعدد، كما كانت تدعى الاوراق النقدية بقيمة خمسة دنانير! بحيث اقترح علىّ صديقي ان يسير ورائي ليراقب جيبي الخلفي الذي امتلأ فجأة بهذه 'الاوراق' النقدية، ويحرسه من ايدي النشالين والحرامية! وسهل اقتناء هذا المبلغ الكبير تحقيق امور كثيرة منها ... اللقاء بالجواهري ! .
اذ راودتني'فكرة' ان اشتري ديوانا لشعر الجواهري، واذهب اليه مباشرة ليوقع عليه، ومن ثم احتفظ بالكتاب الموقع كتذكار، طيلة مدة بعثتي في البلد الغريب الذي انوي السفر اليه. كان البحث عن الديوان في مكتبات بغداد الكثيرة شأنأ هيناً، كما ان تحقيق شرائه امر ميسور، سيما وانا، الان، املك هذا المقدار الكبير من المال؛ لكن الصعوبة تكمن في الذهاب الى الشاعر، والطلب منه التوقيع على الكتاب . فهذه الممارسة؛ ممارسة توقيع الكتب، التى تعرفت اليها عبر قراءاتي فقط؛ لم تكن ممارسة معروفة في الوسط الثقافي المحلى ربما حتى وقت قريب، فما بالك في فترة نهاية الخمسينات؟ واذا سلمنا 'بعادية' و مألوفية' تلك الممارسة، فمن يضمن بان الشاعر يعرفها او مطلع عليها ؟ والامر المحيرّ الاخر، هو كيف تسنى لي، انا الريفي الخجول، والصغير عمراً نسبيا (18 سنة)، ان تراودني مثل تلك الافكار التى اعتبرها الان طليعية .. وغريبة نوعا ما؟! .
وبلمح البصر، اقتنيت ”ديوان الجواهري” من ”المكتبة العصرية” الواقعة في اواخر شارع المتنبي، بالقرب من مدخل ”سوق السراي” المعروف؛ وكانت وقتئذٍ من اقدم واشهر مكتبات بغداد واكبرها. وبلمح البصر ايضا، صعدت ومعي ”الديوان” متسلقا سلم جريدة ”الرأي العام” في شارع المتنبي، التى كان يصدرها الشاعر آنذاك. لم يكن ثمة حراس او موظفو استعلامات؛ وفجأة وجدت نفسي امام الجواهري، في غرفته، لم يكن جالساً، كان يسير في غرفته جيئة وذهاب، وبيده سيجارته، وجدته رجلاً ضعيف البنية، بيد انه طويل، طويل وضعيف؛ سلمت عليه وباغته بطلبي: التوقيع على ديوانه.
- هل عندك قلم ؟
- سألني ولم تبد عليه، كما توقعت، اية دهشة او استغراب من طلبي..
- لا، لا املك قلما.
كان جوابي سريعاً... ماكرا وخبيثاً؛ ذلك لاني شعرت بحسي الريفي باني اذا اعطيته قلماً مباشرة - وكنت احمله - سوف تنتهي المقابلة بسرعة، وهو امر لم يكن في صالحي؛ في صالحي كان البقاء معه اطول وقت ممكن..؛ ورأيته يفتش في جيوبه العديدة، ثم وجده : قلم : باندان؛ بحبر اسود،
- ماهو اسمك ؟
- خالد السلطاني
وكتب في الزاوية العليا من اول صفحة داخلية من الديوان:
“الى الاخ خالد السلطان
مع التحية”
ثم وقع باسمه مع ذكر التاريخ كما اتذكر؛ كتب اسمي من دون اضافة حرف ”ياء” النسبة الاخير؛ ربما سمعها - السلطان - مني هكذا..، ولم اعترض طبعاً.
عندما كان يكتب، ادهشتني رؤية اصابعه؛ كانت اصابع طويلة ودقيقة؛ اطول مما ينبغي؛ لم ارَ سابقاً اصابع بهذا الطول، وبتلك النحافة؛ لقد اخذني المشهد، وجعلني اركزّ مبحلقاً عليها، على تلك الاصابع النحيلة المستدقة المعروقة، الماسكة بالقلم، دون اية محاولة للتعرف على ملامح وجهه او بذل اي مسعى لاستذكار تقاطيع ذلك الوجه؛ لا ادري لماذا تذكرت، فجأة، قصة ”ستيفان زفايج”: - 24 ساعة من حياة امرأة -؛ ففي تلك القصة يتناول المؤلف عبر ابطال القصة، الحديث عن الاصابع : اصابع الاشخاص : اشكالها وهيئاتها، وماذا بمقدورها ان تعكس من مزايا شخصية، وسمات ذاتية.. لقد كانت اصابعه تشبه الى حد كبير، كما ساعرف لاحقاً، اصابع الموسيقي، او عازف البـيانو تحديداً... وليست ثمة غرابة في ذلك، فقد عرفت، لاحقاً ايضا ً، بان الشاعر كان يصطفي ايقاع قصيدته وصوتها الموسيقي، قبل ان يملأها في جُمل فيما بعد، وعندما كان يشتغل على قصيدته وينظمها، كان اولا ”يحدي” شفاهياً بموسيقاها قبل ان تتحول تحريرياً الى ابيات شعر من كلمات! ولعل هذا التآلف - وربما التثاقف، ايضاً - الذي نزع الجواهري لتأسيسه في منجزه الشعري، جعل منه منجزاً يتسم معماره على حضور طاغِ ”لميلوديا” موسيقية تطمح الى تأثيث حساسية جديدة بمرجعية نادرة، مرجعية تحرص لان تتصادى مع اجناس معرفية متنوعة...
(3)
.. في موسكو التى امست مكاناً لدراستي المعمارية، تعرفت فيها على الكثيرين: المقيمين فيها، او زوارها؛ وما اكثر زوار موسكو حينذاك! تعرفت على غائب طعمة فرمان، وحسب الشيخ جعفر واحمد ماضي، وجيلي عبد الرحمن، ومجيد بكتاش، وكذلك عبد الوهاب البياتي، ملحقنا الثقافي، وعلى السفير عبد الوهاب محمود – احد الشخصيات الوطنية العراقية المرموقة، الدبلوماسي والمثقف المتنور، الذي لم تعرف سفارتنا بعده رجلا مثل مكانته وحضوره، وبمثل حسه الوطني ورغبته الصادقة في تمتين اواصر الصداقة الحقيقية بين الشعبين العراقي والسوفياتي انذاك. ..وفي موسكو التقيت به.. الجواهري، مرة اخرى. وكان ذلك اثناء انعقاد ”مؤتمر موسكو لنزع السلاح” صيف عام 1962؛ والذي حضره مفكرون ومثقفون وعلماء ورجال سياسة مشهورون من غالبية انحاء العالم، بضمنهم وفد العراق الذي كان في مقدمتهم الشاعر الجواهري الذي القى في المؤتمر قصيدة بعنوان ”اطفالي واطفال العالم”؛ و ترجمت القصيدة في حينها الى عدة لغات ونشرت في عدة صحف عالمية؛ مطلعها:
لي طفلتـانِ اقنصُ الخيالا
عبريهمـا والعِـطر والظـِلالا
اسوءُ حالا كي يُسـّرا حالا
كنت قد عملت، سابقاً،في سنة 1961، تخطيطاً شخصياً للشاعر عبد الوهاب البياتي، الذي سرعان ما نشره في ديوانه ”القمر الاخضر” الصادر بالروسية. واذ عرفت بان الجواهري سيحضر هذا المؤتمر، عملت له ايضا تخطيطا شخصيا منقولا عن صورة فوتغرافية، رسمتها بتأن وبدقة، ومزجتها مع ”مشعل” الحرية، ولهيبه المتوهج الذي يفترض ان ينير ”دروب” دعاة الحرية ومناصريها. ومع ان الرسم التخطيطي كان مثقلا بذهنية ومزاج تلك الايام وتصوراتها المتخيلة، فقد كنت صادقاً واميناً ومخلصاً في التعبير عن احاسيسي تجاه شاعري المفضل.
رغبت ان اسلمه التخطيط في مقهى موسكو الشهير، اذ كان المكان محط مجلس عدد كبير من المثقفين المعروفين المشاركين في المؤتمر؛ فقد كان يجلس هناك بالاضافة الى ”مجموعتنا”: الجواهري وعزيز شريف وحسين مردان من العراق وميخائيل نعيمة من لبنان وكثير من المثقفين المصريين، فضلا عن”جون بول سارتر”ورفيقة دربه”سيمون دي بوفار”ومثقفين مشهورين اخرين من بلدان متعددة مشاركين في المؤتمر اياه...
...كان 'مجيد بكتاش' كالعادة، يكرر دائما بصوته المميزّ، مقولة منسوبة الى الجواهري ارسلها الشاعر الى احد محرري صحف بغداد الصادرة في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، اثناء اشتداد المعارك الفكرية بين مناصري الجمهورية وخصومها. وفي حينها كانت تصدر جريدة مبتذلة ، مليئة بمقالات اتسم خطابها ببذائة لغوية وتعابير وقحة وشتائم كلامية رخيصة موجهه الى جميع انصار الثورة ومن ضمنهم بالطبع الجواهري وجريدته 'الرأي العام'. وفي حينها ايضاً، اصدر احد اقدم صحافي العراق جريدة 'صوت الاحرار' ذات اتجاه معاكس لتلك الصحيفة 'الصفراء '، ساعياً الى دحض اكاذيبها 'وتفكيك' اتهاماتها ومقولاتها الفاحشة بمقالات مضادة ومناصرة الى الجواهري وصحبه الاخيار، ويقال ان الشاعر حرر رسالة مفتوحة تضامنية مع رئيس تحرير هذه الجريدة نشرتها 'الرأي العام'، وباتت مجال اهتمام الوسط الثقافي والسياسي المحلي؛ وقد عنونها كالاتي :
'عزيزي طه لطفي البدري، اقبل يديك الراعشتين !' .
كان 'مجيد' يكرر هذه العبارة يومياً، بمناسبة وبدونها، حتى امست 'لازمة' له، ورغبت عند تقديم المخطط الى الجواهري ان اقبل يديه، تماما كما كان يرغب هو في رسالته المشهورة، التى كررها 'مجيد' على اسماعنا مرارا وتكرارا ً؛ كايماءة مني لشعور الاحترام والتقدير والتبجيل والمحبة الذي اكنه له. واثناء جلوسه في مقهى موسكو العتيد، محاطاً بكثير من اصدقائي ومعارفي العراقيين، اظهرت المخطط الذي وضعته في اطار، وقدمته له؛ كانت مفاجأة بالنسبة اليه، وظهر عليه ارتباك، لكنه سرعان ما ابدى اعجابه به ورضاءه عليه، عند ذاك صاح اصدقائي، وكانوا يعرفون مسبقا عزمي ونيتي في تقبيل يديه:
- قبله .. قبله !
بيد ان الجواهري تراءى له ان مناشدة اصدقائي موجّه له شخصياً، وليس لي ، ولهذا سارع الى تقبيلي، وانا في حيرة من امري ومندهش لسير الامور في اتجاه مخالف تماما لما كنت 'خططت' له، وبات قصدي في تقبيل 'يديه الراعشتين' امرا صعب التحقيق، بعد 'سيل القبلات التى غمرني بها الشاعر الكبير!
(4)
لم يكن التخطيط، الذي رسمته للشاعر، تخطيطاً محترفاً ذا قيمة فنية عالية، واعترف بعد تلك السنين من ميقات رسم التخطيط، بانه احتوى على اخطاء وعيوب فنية وتكوينية عديدة. انه لا يجاري قطعاً، لا من ناحية قوة الخطوط ورهافتها، ولا من ناحية التكوين الطليعي ذلك التخطيط الجميل والرائع الذي عمله ”جواد سليم” له، لكنه كما اعتقد، كان التخطيط الشخصي الثاني للشاعر في ذلك الحين، بعد تخطيط جواد. واود هنا ان اثير موضوعة اهمية مخطط ”جواد سليم” اياه. فهذا المخطط الذي عمله ”جواد” للجواهري في باريس أواخر الاربعينات لم يحظ َبالعناية والاهتمام من جانب جميع كتاب الدراسات النقدية التى تعاطت مع منجز جواد سليم الفني؛ علماً ان هذا المخطط السريع، المشغول بالحبر الصيني، والمعمول مباشرة من ”الطبيعة”؛ يرتقي، في رأيي، باسلوبه المحترف المتقن وفنيته العالية الى مصاف اهمية التخطيطات الكرافيكية التى عملها ”هنري ماتيس”، تلك التى ساهمت في بناء شهرته وتكريس حضوره في المشهد الفني العالمي. ولولا الحاح الجواهري في تكرار نشر التخطيط كلما اعاد طباعة ديوانه، لظل هذا التخطيط الرائع اسير النسيان والاغفال، تماما كما هو منسي في دراسات نقادنا الفنانين، الذين ”اجمعوا” في توافق مريب على تغاضي هذا التخطيط، وعدم الاشارة اليه مطلقاً، مع انه عمل اصيل في مسار الانجاز الفني لجواد سليم،كما انه حدث مهم في تاريخ الفن العراقي الحديث. ويماثل مصير اغفال ذكر تخطيط ”جواد سليم” مصير حادثة اهمال الدراسات النقدية وقصورها في التعاطي مع اهمية نص مقدمة الديوان الشهيرة ”على قارعة الطريق”، تلك المقدمة التى اتسم اسلوبها الكتابي بوجود نَفَس طليعي، مفعم بحس حداثي مبكر، سواء كان ذلك لجهة تكريس معمار تجديدي في طريقة بناء تعاقب نصوصها؛ ام في حضور سياق مدهش لمفرداتها المختارة بعناية تامة؛ وقد بلغ اعجابي الشخصي ”بالمقدمة” ان حفظت عن ظهر قلب نصوصها النثرية، تماما، كما يحفظ الاخرون ابيات القصيدة الشعرية!
(5)
اقول، رغم ان التخطيط المقدم للشاعر، في مقهى موسكو، لم يكن بمعايير فنية كاملة، فاني وددت به ان اعبر عن احترامي وتقديري للشاعر، شاعري المفضل، الذي سبق وان قابلته لاول مرة، في احدى بنايات شارع المتنبي ببغداد. بالطبع، لم اذكر له الحكاية : حكاية توقيع الكتاب، وحتى لو ذكرتها، فانه قطعا لا يتذكرها؛ لكني عرفت، لاحقاً، بانه كان شديد الاهتمام والرعاية لهذا التخطيط، وظل مصاحبا له في كثير من المدن التى مرّ بها. وعندما استقر في بغداد في السبعينات علق التخطيط في غرفة الضيوف اعتزازا به. وذات يوم، من منتصف السبعينات، وكنت اعمل استاذا في جامعة بغداد بكلية الهندسة، وكان يعمل معي في الكلية نفسها ابن الشاعر وصديقي د. كفاح، اخبرني الاخير بان الجواهري يود ان يراني مرة اخرى ليعبر لي عن تقديره الشخصي واعتزازه بالتخطيط.
وزرته في داره بحي الحارثية بصحبة الصديق كفاح، الذي قدمني اليه على اني الشخص الذي رسم التخطيط، ذلك التخطيط المعلق في جدار غرفة الضيوف، التى كانت وقتها غاصة بزواره، اذكر منهم مهدي المخزومي النحوي البغدادي المعروف وعلي جواد الطاهر، واستقبلني الشاعر بحرارة، وشكرني على هديتي، التى ابدى اعجابه بها وامتنانه لي. وقد فهمت لاحقاً، ان الجواهري ابدى رغبة شخصية وحرصا شديداً بوجوب نشر ذلك التخطيط في احد اجزاء دواوينه الصادرة ببغداد في السبعينات، وتم تحقيق ذلك!
... لم تكن ”اثاث” الدار التي يسكنها الجواهري اعتمادا على نوعية تأثيث غرفة الضيوف تليق بمقام الشاعر واهميته الادبية، بل ان عمارة ”الدارة” نفسها لم تحتوي على قيمة فنية تشي باهمية”ساكنها'؛ كما ان موقعها ظل بعيدا عن نهر دجلة، الذي طالما تاق الشاعر ان يسكن بجواره وعلى ضفافه؛ وقارنت بين طبيعة ”القصور” التى بدات تشيد، وقتذاك، بشكل سريع لسكن ”حكام” العراق وازلامه الموغلين بدم الشعب وسارقي ثرواته، وبين المسكن المتواضع للشاعر الكبير، وصعقني مجرد التفكير بتلك المقارنة ونتائجها المجحفة والظالمة والجائرة وغير العادلة بحق احد رجالات العراق العظام! بيد ان الشاعر ومن خلال حديثه وانفعالاته لم احس ّ بانه يقترب من ”محيط” منطقة الافكار التى راودتني، وظل منسجما مع نفسه ومع ضيوفه غير مكترث بالحالة التى هو فيها، متمسكاً باسلوب حياته : اسلوب المثقف الكوني الذي لا يملك شيئا، ولا يملكه شئ، بتعبير المتصوفة!
وكانت تلك الزيارة اخر عهد لي بالجواهري، كما كانت اخر مرة، ارى فيها التخطيط الاصلي.
تمر في هذه الايام ذكرى وفاة الشاعر العراقي المعروف محمد مهدي الجواهري (ولد في عام 1899 وتوفي في 27 تموز 1997). ادناه ، كتبت بعضها سابقاً (معظمها يعود الى سنة 2004)، عن علاقتي 'الشخصية' بالشاعر الكبير.
(1)
تعود”معرفتي” باسم الجواهري وبشعره، عندما بدأت أعي، وانا طالب في المرحلة الثانوية بمدى الظلم والاجحاف الواقع علينا، سيما نحن الفقراء، ساكني هذا البلد الذي اسمه – العراق؛ ومما زاد في التركيز على هذا الوعي وتأجيج شعور الاحساس به، انتسابي الى عائلة ينتمي جل ّ افرادها الى اليسار، وينادي بعضهم الى ضرورة التغيير الثوري كحل مناسب وحتمي لتبديل وضعنا المزري. وازعم بان منطقة الجنوب العراقي التى انتمي اليها جغرافياً، كانت آنذاك، تمور بمثل تلك الاحاسيس والافكار، وهو ما اطلعت عليه ميدانياً اثناء زياراتي واقامتي ولقاءاتي مع الكثيرين من سكنة تلك المناطق، والعيش بين ظهرانيهم.
كان اسم”الجواهري” وقتذاك، عنوانا للامال المتطلعة نحو التغيير، كان الشاعر الذي جسد في شعره طموحات الكثيرين، الطموحات المتطلعة والساعية وراء آمال لآفاق جديدة، افاق ينعم الشعب فيها بالحرية المفقودة ويتلمس مزايا العيش الكريم؛ وربما كان هذا الجانب المعرفي من شعر الجواهري،هو الجانب الاكثر قرباً وفهما عند الكثيرين، الامر الذي مكنّ خطاب منجزه الشعري ليكون خطابا هاما ومهيمنا على مشهد الاحداث الوطنية والثقافية في عموم البلاد.
... في عصر يوم من ايام الخمسينات، وكنت في احدى زياراتي النادرة الى بغداد، طرق سمعي، وانا في شارع الرشيد الفخم، نداءات بائعي صحيفة ”اليقظة” المسائية، يعلنون عن قصيدة جديدة للجواهري القاها في دمشق مؤخراً، مطلعها:
خلفتُ غاشيةَ الخنوع ورائي
واتيتُ اقبس جمرة الشهداءِ
ودرجتُ في درب على عَنَت السُّرى
القٍ بنور خطاهـُم وضاء
كان المارة واصحاب الدكاكين على جانبي الطريق يستعجلون الباعة في الحصول على نسختهم من الجريدة التى احتلت القصيدة صفحتها الاولى. كان مشهداً رائعاً بامتياز؛ مشهدا، ان اكون انا، بنفسي شاهدا، على مدى الحب والتقدير والتبجيل الذي يكنه الاخرون للشاعر العظيم : شاعري الاثير؛ عندما رأيت نسخ الصحيفة تتلقفها الايدي ولتبحث العيون بسرعة وتستقر عند كلمات ابيات القصيدة العصماء!
(2)
... عندما نلت مقعدا من مقاعد دائرة البعثات للدراسة بالخارج على حساب الدولة في نهاية الخمسينات، وتحديداً في صيف عام 1959، منحتنا 'الدائرة كعادتها دفعة مالية مخصصة الى الطلبة المبعوثين، من اجل شراء ملابس اضافية تتواءم مع الاجواء الباردة الاوروبية، التى ستضحى دولها مقرا ً لدراستنا المستقبلية. لا اذكر مقدار المبلغ في التحديد، لكنه كان مبلغاً كبيرا؛ بالنسبة لي كان مبلغاً خيالياً، لا يصدق: ثمانون ديناراً او نحوها! فلاول مرة ارى في حياتي ' نوط ابو الخمسة 'بهذة الكثرة والعدد، كما كانت تدعى الاوراق النقدية بقيمة خمسة دنانير! بحيث اقترح علىّ صديقي ان يسير ورائي ليراقب جيبي الخلفي الذي امتلأ فجأة بهذه 'الاوراق' النقدية، ويحرسه من ايدي النشالين والحرامية! وسهل اقتناء هذا المبلغ الكبير تحقيق امور كثيرة منها ... اللقاء بالجواهري ! .
اذ راودتني'فكرة' ان اشتري ديوانا لشعر الجواهري، واذهب اليه مباشرة ليوقع عليه، ومن ثم احتفظ بالكتاب الموقع كتذكار، طيلة مدة بعثتي في البلد الغريب الذي انوي السفر اليه. كان البحث عن الديوان في مكتبات بغداد الكثيرة شأنأ هيناً، كما ان تحقيق شرائه امر ميسور، سيما وانا، الان، املك هذا المقدار الكبير من المال؛ لكن الصعوبة تكمن في الذهاب الى الشاعر، والطلب منه التوقيع على الكتاب . فهذه الممارسة؛ ممارسة توقيع الكتب، التى تعرفت اليها عبر قراءاتي فقط؛ لم تكن ممارسة معروفة في الوسط الثقافي المحلى ربما حتى وقت قريب، فما بالك في فترة نهاية الخمسينات؟ واذا سلمنا 'بعادية' و مألوفية' تلك الممارسة، فمن يضمن بان الشاعر يعرفها او مطلع عليها ؟ والامر المحيرّ الاخر، هو كيف تسنى لي، انا الريفي الخجول، والصغير عمراً نسبيا (18 سنة)، ان تراودني مثل تلك الافكار التى اعتبرها الان طليعية .. وغريبة نوعا ما؟! .
وبلمح البصر، اقتنيت ”ديوان الجواهري” من ”المكتبة العصرية” الواقعة في اواخر شارع المتنبي، بالقرب من مدخل ”سوق السراي” المعروف؛ وكانت وقتئذٍ من اقدم واشهر مكتبات بغداد واكبرها. وبلمح البصر ايضا، صعدت ومعي ”الديوان” متسلقا سلم جريدة ”الرأي العام” في شارع المتنبي، التى كان يصدرها الشاعر آنذاك. لم يكن ثمة حراس او موظفو استعلامات؛ وفجأة وجدت نفسي امام الجواهري، في غرفته، لم يكن جالساً، كان يسير في غرفته جيئة وذهاب، وبيده سيجارته، وجدته رجلاً ضعيف البنية، بيد انه طويل، طويل وضعيف؛ سلمت عليه وباغته بطلبي: التوقيع على ديوانه.
- هل عندك قلم ؟
- سألني ولم تبد عليه، كما توقعت، اية دهشة او استغراب من طلبي..
- لا، لا املك قلما.
كان جوابي سريعاً... ماكرا وخبيثاً؛ ذلك لاني شعرت بحسي الريفي باني اذا اعطيته قلماً مباشرة - وكنت احمله - سوف تنتهي المقابلة بسرعة، وهو امر لم يكن في صالحي؛ في صالحي كان البقاء معه اطول وقت ممكن..؛ ورأيته يفتش في جيوبه العديدة، ثم وجده : قلم : باندان؛ بحبر اسود،
- ماهو اسمك ؟
- خالد السلطاني
وكتب في الزاوية العليا من اول صفحة داخلية من الديوان:
“الى الاخ خالد السلطان
مع التحية”
ثم وقع باسمه مع ذكر التاريخ كما اتذكر؛ كتب اسمي من دون اضافة حرف ”ياء” النسبة الاخير؛ ربما سمعها - السلطان - مني هكذا..، ولم اعترض طبعاً.
عندما كان يكتب، ادهشتني رؤية اصابعه؛ كانت اصابع طويلة ودقيقة؛ اطول مما ينبغي؛ لم ارَ سابقاً اصابع بهذا الطول، وبتلك النحافة؛ لقد اخذني المشهد، وجعلني اركزّ مبحلقاً عليها، على تلك الاصابع النحيلة المستدقة المعروقة، الماسكة بالقلم، دون اية محاولة للتعرف على ملامح وجهه او بذل اي مسعى لاستذكار تقاطيع ذلك الوجه؛ لا ادري لماذا تذكرت، فجأة، قصة ”ستيفان زفايج”: - 24 ساعة من حياة امرأة -؛ ففي تلك القصة يتناول المؤلف عبر ابطال القصة، الحديث عن الاصابع : اصابع الاشخاص : اشكالها وهيئاتها، وماذا بمقدورها ان تعكس من مزايا شخصية، وسمات ذاتية.. لقد كانت اصابعه تشبه الى حد كبير، كما ساعرف لاحقاً، اصابع الموسيقي، او عازف البـيانو تحديداً... وليست ثمة غرابة في ذلك، فقد عرفت، لاحقاً ايضا ً، بان الشاعر كان يصطفي ايقاع قصيدته وصوتها الموسيقي، قبل ان يملأها في جُمل فيما بعد، وعندما كان يشتغل على قصيدته وينظمها، كان اولا ”يحدي” شفاهياً بموسيقاها قبل ان تتحول تحريرياً الى ابيات شعر من كلمات! ولعل هذا التآلف - وربما التثاقف، ايضاً - الذي نزع الجواهري لتأسيسه في منجزه الشعري، جعل منه منجزاً يتسم معماره على حضور طاغِ ”لميلوديا” موسيقية تطمح الى تأثيث حساسية جديدة بمرجعية نادرة، مرجعية تحرص لان تتصادى مع اجناس معرفية متنوعة...
(3)
.. في موسكو التى امست مكاناً لدراستي المعمارية، تعرفت فيها على الكثيرين: المقيمين فيها، او زوارها؛ وما اكثر زوار موسكو حينذاك! تعرفت على غائب طعمة فرمان، وحسب الشيخ جعفر واحمد ماضي، وجيلي عبد الرحمن، ومجيد بكتاش، وكذلك عبد الوهاب البياتي، ملحقنا الثقافي، وعلى السفير عبد الوهاب محمود – احد الشخصيات الوطنية العراقية المرموقة، الدبلوماسي والمثقف المتنور، الذي لم تعرف سفارتنا بعده رجلا مثل مكانته وحضوره، وبمثل حسه الوطني ورغبته الصادقة في تمتين اواصر الصداقة الحقيقية بين الشعبين العراقي والسوفياتي انذاك. ..وفي موسكو التقيت به.. الجواهري، مرة اخرى. وكان ذلك اثناء انعقاد ”مؤتمر موسكو لنزع السلاح” صيف عام 1962؛ والذي حضره مفكرون ومثقفون وعلماء ورجال سياسة مشهورون من غالبية انحاء العالم، بضمنهم وفد العراق الذي كان في مقدمتهم الشاعر الجواهري الذي القى في المؤتمر قصيدة بعنوان ”اطفالي واطفال العالم”؛ و ترجمت القصيدة في حينها الى عدة لغات ونشرت في عدة صحف عالمية؛ مطلعها:
لي طفلتـانِ اقنصُ الخيالا
عبريهمـا والعِـطر والظـِلالا
اسوءُ حالا كي يُسـّرا حالا
كنت قد عملت، سابقاً،في سنة 1961، تخطيطاً شخصياً للشاعر عبد الوهاب البياتي، الذي سرعان ما نشره في ديوانه ”القمر الاخضر” الصادر بالروسية. واذ عرفت بان الجواهري سيحضر هذا المؤتمر، عملت له ايضا تخطيطا شخصيا منقولا عن صورة فوتغرافية، رسمتها بتأن وبدقة، ومزجتها مع ”مشعل” الحرية، ولهيبه المتوهج الذي يفترض ان ينير ”دروب” دعاة الحرية ومناصريها. ومع ان الرسم التخطيطي كان مثقلا بذهنية ومزاج تلك الايام وتصوراتها المتخيلة، فقد كنت صادقاً واميناً ومخلصاً في التعبير عن احاسيسي تجاه شاعري المفضل.
رغبت ان اسلمه التخطيط في مقهى موسكو الشهير، اذ كان المكان محط مجلس عدد كبير من المثقفين المعروفين المشاركين في المؤتمر؛ فقد كان يجلس هناك بالاضافة الى ”مجموعتنا”: الجواهري وعزيز شريف وحسين مردان من العراق وميخائيل نعيمة من لبنان وكثير من المثقفين المصريين، فضلا عن”جون بول سارتر”ورفيقة دربه”سيمون دي بوفار”ومثقفين مشهورين اخرين من بلدان متعددة مشاركين في المؤتمر اياه...
...كان 'مجيد بكتاش' كالعادة، يكرر دائما بصوته المميزّ، مقولة منسوبة الى الجواهري ارسلها الشاعر الى احد محرري صحف بغداد الصادرة في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، اثناء اشتداد المعارك الفكرية بين مناصري الجمهورية وخصومها. وفي حينها كانت تصدر جريدة مبتذلة ، مليئة بمقالات اتسم خطابها ببذائة لغوية وتعابير وقحة وشتائم كلامية رخيصة موجهه الى جميع انصار الثورة ومن ضمنهم بالطبع الجواهري وجريدته 'الرأي العام'. وفي حينها ايضاً، اصدر احد اقدم صحافي العراق جريدة 'صوت الاحرار' ذات اتجاه معاكس لتلك الصحيفة 'الصفراء '، ساعياً الى دحض اكاذيبها 'وتفكيك' اتهاماتها ومقولاتها الفاحشة بمقالات مضادة ومناصرة الى الجواهري وصحبه الاخيار، ويقال ان الشاعر حرر رسالة مفتوحة تضامنية مع رئيس تحرير هذه الجريدة نشرتها 'الرأي العام'، وباتت مجال اهتمام الوسط الثقافي والسياسي المحلي؛ وقد عنونها كالاتي :
'عزيزي طه لطفي البدري، اقبل يديك الراعشتين !' .
كان 'مجيد' يكرر هذه العبارة يومياً، بمناسبة وبدونها، حتى امست 'لازمة' له، ورغبت عند تقديم المخطط الى الجواهري ان اقبل يديه، تماما كما كان يرغب هو في رسالته المشهورة، التى كررها 'مجيد' على اسماعنا مرارا وتكرارا ً؛ كايماءة مني لشعور الاحترام والتقدير والتبجيل والمحبة الذي اكنه له. واثناء جلوسه في مقهى موسكو العتيد، محاطاً بكثير من اصدقائي ومعارفي العراقيين، اظهرت المخطط الذي وضعته في اطار، وقدمته له؛ كانت مفاجأة بالنسبة اليه، وظهر عليه ارتباك، لكنه سرعان ما ابدى اعجابه به ورضاءه عليه، عند ذاك صاح اصدقائي، وكانوا يعرفون مسبقا عزمي ونيتي في تقبيل يديه:
- قبله .. قبله !
بيد ان الجواهري تراءى له ان مناشدة اصدقائي موجّه له شخصياً، وليس لي ، ولهذا سارع الى تقبيلي، وانا في حيرة من امري ومندهش لسير الامور في اتجاه مخالف تماما لما كنت 'خططت' له، وبات قصدي في تقبيل 'يديه الراعشتين' امرا صعب التحقيق، بعد 'سيل القبلات التى غمرني بها الشاعر الكبير!
(4)
لم يكن التخطيط، الذي رسمته للشاعر، تخطيطاً محترفاً ذا قيمة فنية عالية، واعترف بعد تلك السنين من ميقات رسم التخطيط، بانه احتوى على اخطاء وعيوب فنية وتكوينية عديدة. انه لا يجاري قطعاً، لا من ناحية قوة الخطوط ورهافتها، ولا من ناحية التكوين الطليعي ذلك التخطيط الجميل والرائع الذي عمله ”جواد سليم” له، لكنه كما اعتقد، كان التخطيط الشخصي الثاني للشاعر في ذلك الحين، بعد تخطيط جواد. واود هنا ان اثير موضوعة اهمية مخطط ”جواد سليم” اياه. فهذا المخطط الذي عمله ”جواد” للجواهري في باريس أواخر الاربعينات لم يحظ َبالعناية والاهتمام من جانب جميع كتاب الدراسات النقدية التى تعاطت مع منجز جواد سليم الفني؛ علماً ان هذا المخطط السريع، المشغول بالحبر الصيني، والمعمول مباشرة من ”الطبيعة”؛ يرتقي، في رأيي، باسلوبه المحترف المتقن وفنيته العالية الى مصاف اهمية التخطيطات الكرافيكية التى عملها ”هنري ماتيس”، تلك التى ساهمت في بناء شهرته وتكريس حضوره في المشهد الفني العالمي. ولولا الحاح الجواهري في تكرار نشر التخطيط كلما اعاد طباعة ديوانه، لظل هذا التخطيط الرائع اسير النسيان والاغفال، تماما كما هو منسي في دراسات نقادنا الفنانين، الذين ”اجمعوا” في توافق مريب على تغاضي هذا التخطيط، وعدم الاشارة اليه مطلقاً، مع انه عمل اصيل في مسار الانجاز الفني لجواد سليم،كما انه حدث مهم في تاريخ الفن العراقي الحديث. ويماثل مصير اغفال ذكر تخطيط ”جواد سليم” مصير حادثة اهمال الدراسات النقدية وقصورها في التعاطي مع اهمية نص مقدمة الديوان الشهيرة ”على قارعة الطريق”، تلك المقدمة التى اتسم اسلوبها الكتابي بوجود نَفَس طليعي، مفعم بحس حداثي مبكر، سواء كان ذلك لجهة تكريس معمار تجديدي في طريقة بناء تعاقب نصوصها؛ ام في حضور سياق مدهش لمفرداتها المختارة بعناية تامة؛ وقد بلغ اعجابي الشخصي ”بالمقدمة” ان حفظت عن ظهر قلب نصوصها النثرية، تماما، كما يحفظ الاخرون ابيات القصيدة الشعرية!
(5)
اقول، رغم ان التخطيط المقدم للشاعر، في مقهى موسكو، لم يكن بمعايير فنية كاملة، فاني وددت به ان اعبر عن احترامي وتقديري للشاعر، شاعري المفضل، الذي سبق وان قابلته لاول مرة، في احدى بنايات شارع المتنبي ببغداد. بالطبع، لم اذكر له الحكاية : حكاية توقيع الكتاب، وحتى لو ذكرتها، فانه قطعا لا يتذكرها؛ لكني عرفت، لاحقاً، بانه كان شديد الاهتمام والرعاية لهذا التخطيط، وظل مصاحبا له في كثير من المدن التى مرّ بها. وعندما استقر في بغداد في السبعينات علق التخطيط في غرفة الضيوف اعتزازا به. وذات يوم، من منتصف السبعينات، وكنت اعمل استاذا في جامعة بغداد بكلية الهندسة، وكان يعمل معي في الكلية نفسها ابن الشاعر وصديقي د. كفاح، اخبرني الاخير بان الجواهري يود ان يراني مرة اخرى ليعبر لي عن تقديره الشخصي واعتزازه بالتخطيط.
وزرته في داره بحي الحارثية بصحبة الصديق كفاح، الذي قدمني اليه على اني الشخص الذي رسم التخطيط، ذلك التخطيط المعلق في جدار غرفة الضيوف، التى كانت وقتها غاصة بزواره، اذكر منهم مهدي المخزومي النحوي البغدادي المعروف وعلي جواد الطاهر، واستقبلني الشاعر بحرارة، وشكرني على هديتي، التى ابدى اعجابه بها وامتنانه لي. وقد فهمت لاحقاً، ان الجواهري ابدى رغبة شخصية وحرصا شديداً بوجوب نشر ذلك التخطيط في احد اجزاء دواوينه الصادرة ببغداد في السبعينات، وتم تحقيق ذلك!
... لم تكن ”اثاث” الدار التي يسكنها الجواهري اعتمادا على نوعية تأثيث غرفة الضيوف تليق بمقام الشاعر واهميته الادبية، بل ان عمارة ”الدارة” نفسها لم تحتوي على قيمة فنية تشي باهمية”ساكنها'؛ كما ان موقعها ظل بعيدا عن نهر دجلة، الذي طالما تاق الشاعر ان يسكن بجواره وعلى ضفافه؛ وقارنت بين طبيعة ”القصور” التى بدات تشيد، وقتذاك، بشكل سريع لسكن ”حكام” العراق وازلامه الموغلين بدم الشعب وسارقي ثرواته، وبين المسكن المتواضع للشاعر الكبير، وصعقني مجرد التفكير بتلك المقارنة ونتائجها المجحفة والظالمة والجائرة وغير العادلة بحق احد رجالات العراق العظام! بيد ان الشاعر ومن خلال حديثه وانفعالاته لم احس ّ بانه يقترب من ”محيط” منطقة الافكار التى راودتني، وظل منسجما مع نفسه ومع ضيوفه غير مكترث بالحالة التى هو فيها، متمسكاً باسلوب حياته : اسلوب المثقف الكوني الذي لا يملك شيئا، ولا يملكه شئ، بتعبير المتصوفة!
وكانت تلك الزيارة اخر عهد لي بالجواهري، كما كانت اخر مرة، ارى فيها التخطيط الاصلي.
التعليقات